كيف حج الرسول صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى
الحمد لله حمد الشاكرين، والحمد لله في كل وقت وحين، الحمد لله حمدًا على كل النعم، والحمد لله على حمد النعم، والحمد لله حمدًا يليق برب النعم، الحمد لله الذي جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، والشهر الحرام والهدي والقلائد، جعل أفئدة الناس تهوي إليه، رجالًا وركبانًا، وعلى كل ضامر، الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابةً للناس وأمنًا، يتردَّدُون إليه، ولا يرون أنهم قضوا منه وطرًا، لما أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه، ونسبه إليه بقوله عز وجل لخليله إبراهيم: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ﴾ [الحج: 26]، تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذكر لهم ذلك البيت حنُّوا، وكلما تذكروا بعدهم عنه أنُّوا ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97].

أحمده تعالى، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا محمدًا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

اعلموا رحمكم الله أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

أما بعد أيها الفضلاء:
موسم لطالما شمَّر إليه المشمِّرون، واشتاقت إليه أرواح المؤمنين، إنه موسم حج بيت الله الحرام، فمن زار تلك البقاع أيها الكرام تذكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كنف جده عبدالمطلب، ثم وهو في رعاية عمه أبي طالب، وهو يرعى الغنم، وهو يدعو الناس في دار الأرقم بن أبي الأرقم، من زار تلك البقاع تذكر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين حين صعد على الصفا فجعل ينادي: "((يا بَني فِهر، يا بني عديٍّ)) لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يَستطِع أن يَخرُج أرسل رسولًا ليَنظر ما هو، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أريتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مُصَدِّقيَّ؟))، قالوا: نعم؛ ما جرَّبنا عليك إلا صدقًا، وفي رواية: "ما جرَّبنا عليك كذبًا قط"، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال عمه أبو لهب: تَـبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا"[1]، تلك البقاع أيها الكرام من زارها تذكر رسول الله وقد ائتمر كفار قريش ليقتلوه، فخرج من بيته مهاجرًا إلى مدينة الإسلام؛ المدينة المنورة وهو يقرأ: ﴿ يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ﴾ [يس: 1، 2]، من رأى تلك البقاع أيها الكرام تذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين، وهم يعانون لإعلاء كلمة الله لا إله إلا الله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، يأتي خباب إلى رسول الله، فيقول: "يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((يا خباب، قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه؛ ولكنكم تستعجلون)).

وهذا بلال رضوان الله عليه كان يجعل في عنقه حبلًا، ويدفع إلى الصبيان يلعبون به، وهو يقول: "أحد، أحد" وكان أمية يخرج في وقت الظهيرة في الرمضاء وهي الرمل الشديد الحرارة، ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول: "أحد، أحد".

أولئك أيها الكرام عانوا لإعلاء كلمة الله عز وجل سبحانه، وجاهدوا في سبيل ذلك، رضي الله عنه وعن جميع أصحاب رسول الله، فماذا قدمنا نحن أيها الكرام لهذا الدين؟! ماذا قدمنا لهذا الدين؟! كيف خدمنا دين الإسلام، أم أننا نحرص غاية الحرص بقصد أو دون قصد أن نخرج من تعاليم هذا الإسلام وهذا الدين؟
كانوا رجالًا كالجبال وربما *** صاروا على موج البحار بحارا

أيها المسلمون، عباد الله:
كيف حج النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائل: ((خذوا عني مناسككم))[2]، نعرف ذلك أيها الفضلاء، ونستخرج فوائد من حجه عليه الصلاة والسلام؛ علَّ الله عز وجل أن ينفعنا بها، فأعيروني قلوبكم وأسماعكم، والله أسأل أن يجعلنا جميعًا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

جاء في صحيح مسلم[3] من حديث جابر بن عبدالله، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله، فسأل عن القوم حتى انتهى إليَّ، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبًا بك يا ابن أخي، سل عمَّا شئت، فسألته، وهو أعمى، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم - هذا سؤال أيها الكرام، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى جوابه؛ لنتعرف على مناسك الحج، وكيف كان حجه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال: ((خُذُوا عني مناسككم)) - قال: فقال رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، وهنا فائدة أيها الكرام، هل يجب الحج على الفور أم على التراخي؟ الحج يجب على الفور، والصواب الذي عليه جمهور أهل العلم أن الحج يجب المبادرة به على الفور، إذا كان قادرًا ببدنه وماله، فإن الواجب عليه البدار بالحج، والمسارعة إليه؛ لقول الله سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ﴾ يعني: واجب لله على الناس، وأما من قال: إن وجوب الحج على التراخي، فيقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخَّر الحج لعذر، فلقد كان يكره الاختلاط بالمشركين في الحج؛ لأنهم كانوا يطوفون حول البيت الحرام عراة، فلما طهر الله عز وجل البيت الحرام حج النبي عليه الصلاة والسلام، إذًا فمن يسَّر الله له القدرة والاستطاعة، وجب عليه الحج فورًا، قال عليه الصلاة والسلام: ((تعجَّلوا إلى الحج - أي: حج الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).

يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه: ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، وهذا ميقات أهل المدينة؛ فالمواقيت أربعة: الميقات الأول: ذو الحليفة، وتعرف اليوم بأبيار علي، وهو ميقات أهل المدينة، ومن أتى عليه، الميقات الثاني: الجحفة، ويعرف الآن برابغ، وهو ميقات أهل الشام ومصر، ومن أتى عليهما، الميقات الثالث: قرن المنازل ويعرف اليوم بالسيل الكبير، وهو ميقات أهل نجد والطائف، ومن أتى عليها، والميقات الرابع: يلملم، ويعرف الآن بالسعدية، وهو ميقات أهل اليمن ومن أتى عليه، هذه هي المواقيت المكانية لمن أراد الحج أو العمرة، فعليه أن يحرم منها، أو بمحاذاتها، ومن تجاوزها دون إحرام فعليه دم.

يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، إنها رحلة مباركة مع رسول الله لأداء مناسك الحج أيها الفضلاء، فافتحوا آذان قلوبكم رعاكم الله، قال: فلما وصلنا إلى ذي الحليفة، ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي، وهنا أيها الكرام استحباب غسل الحائض والنفساء، وأن الحائض والنفساء يفعلان ما يفعله الحاجُّ، غير أنهما لا يطوفان بالبيت الحرام، فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنه أنها حاضت قبل أداء العمرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، افعلي ما يفعله الحاجُّ غير ألا تطوفي بالبيت الحرام))، يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((اغتسلي، واستثفري بثوب وأحرمي))، قال: فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وهنا استحباب أن يكون الإحرام بعد صلاة إما فريضة، أو نافلة، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء، عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك))؛ هذه التلبية أيها الفضلاء لما انتهى إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام، وابنه إسماعيل عليه السلام، أوحى الله إلى إبراهيم: ((أذن في الناس بالحج، قال: يا رب، صوتي ضعيف وكيف يبلغ؟!)) فأوحى الله إليه: ((يا إبراهيم منك الأذان، وعلينا البلاغ))، فأذن في الناس: ((أيها الناس هذا بيت الله، فحجُّوا إليه))، فأقبلت إليه القلوب تهتف من كل فج عميق: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك))، هذه التلبية ليست كلمات يردِّدها اللسان؛ بل هي شعار حج التوحيد، ومقصد الحج وغايته، وهي الغاية من كل العبادات، توحيد الله عز وجل سبحانه وتعالى، هذه التلبية أيها الفضلاء تتضمَّن من الخضوع والافتقار والتقرُّب لتحقيق العبودية لله عز وجل سبحانه وتعالى؛ ولذا جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المشركون يقولون - أي عند الطواف بالبيت الحرام -: "لبيك لا شريك لك"، قال: فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ((ويلكم، قد قد))؛ أي: قد كفاكم هذا الكلام، فاقتصروا عليه، ولا تزيدوا عليه، لماذا يا ابن عباس قال: لأنهم كانوا يزيدون على ذلك، فيقولون: "إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"[4]، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.

يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن – وهو مسنون في كل طواف؛ بل أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين والحجر الأسود، جاء في حديث عبدالله بن عمر ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني، وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقبل الحجر الأسود، ويقول بعد أن يُقبِّلَه: "إني أعلم أنك حجر لا تضرُّ، ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُك ما قبَّلتُك"، ويستحب تقبيل الحجر الأسود في طواف الفريضة، وطواف النافلة في الحج والعمرة إذا تيسَّر دون مزاحمة، ولا مشقَّة، أو إزعاج لأحد من المسلمين، فأما مع المزاحمة والمشقة يتركه، يشير إشارة من بعيد ويقول: الله أكبر ويكفي، ولا حاجة إلى المزاحمة.

يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ما هو الرمل أيها المؤمنون عباد الله؟ الرمل هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى، ولماذا كان الرمل أيها الأحباب؟ جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين؛ ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا" قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

يقول ابن عبدالله رضي الله عنهما: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، وصلى ركعتين: كان يقرأ في الركعتين ﴿ قل هو الله أحد ﴾ و﴿ قل يا أيها الكافرون ﴾، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 158]، ابدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد الله وكبَّره، وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده))، ثم دعا بين ذلك، قال: مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: ((دخلت العمرة في الحج – مرتين - لا؛ بل لأبد أبد))، فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة توجهوا إلى منى، فأهلُّوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت به، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، فماذا قال في تلك الخطبة العصماء؟
هذا ما سنذكره في الخطبة الثانية، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد أيها الكرام:
وصلنا الآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرفات، حيث اجتمع الناس، ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سيل من البشر، ينظر بين يديه عن يمينه ومن ورائه أناس كُثُر، اتَّسعت رقعة الإسلام، مؤتمر عظيم ما عرفت الدنيا مثله، فماذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم المشهود، وهذا الاجتماع الغفير؟ بماذا خطب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد تحدَّث عن مشكلات عصرنا، تحدَّث عن كوارث دهرنا أيها المؤمنون، حيث قال: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.

تخيلوا أيها المؤمنون هذا الاجتماع والنبي صلى الله عليه وسلم حاجٌّ حجة الوداع، ماذا يقول في مثل هذا اليوم أيها المؤمنون؟
قال: ((أيها الناس، إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله))، ثم قال: ((أيها الناس، اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألَّا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف)).

ثم قال: ((أيها الناس لقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت))، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات، ثم أذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص؛ أي: الشمس، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى لا تسرع، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس! السكينة السكينة، حتى أتى المزدلفة، فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا؛ أي: دون صلاة تفصل بينهما، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره، وهلَّله ووحَّده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر، فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلًا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًّا، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت - أي طواف الإفاضة - وهو ركن من أركان الحج أيها الفضلاء، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبدالمطلب يسقون على زمزم، فقال: ((انزعوا بني عبدالمطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم))، فناولوه دلوًا فشرب منه.

هنا أيها الكرام، هنا أيها الأحباب توقَّفَتْ رواية جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، تأتي رواية عائشة رضي الله عنها حيث قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، وعند الثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة لا يقف عندها[5].

ثم بعد ذلك عاد إلى مكة، وطاف طواف الوداع، وقال: ((من حج أو اعتمر، فليكن آخر عهده الطواف بالبيت))[6].

هنا انتهت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنا وقفة عند خطبته عليه الصلاة والسلام، بماذا خطب الناس أيها الكرام؟
حذر من الدماء، ودماء المسلمين اليوم مستباحة، وحذر من الربا، والناس اليوم - إلا من رحم الله - يتعاملون بالربا، وأوصى بالنساء والناس اليوم إلا من رحم الله يسيء إلى النساء فتراه يضرب أمه، ويظلم زوجته ورحمه، حذر النبي صلى الله عليه وسلم، وأوصى بأن نتمسَّك بالكتاب والسنة، ونحن حريصون كل الحرص غير قاصدين أن نخرج من تعاليم هذا الدين، فلا فلاح ولا توفيق، ولا نجاح إلا بحقن الدماء، والإقلاع عن الربا، والتعامل مع النساء والأرحام ومع الناس بخير، فالدين المعاملة، لا خير ولا فلاح إلا بالعودة والتمسك بالكتاب والسنة أيها الكرام، والشقاء كل الشقاء بالابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله، ومخالفة تعاليم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
الدعاء...

جزاك الله خير

اللهم صل وسلم على نبينا محمد صل الله عليه وسلم

أشكركم واسعدني طرحكم المبارك

طرح في غاية الابداع والجمال والاسلوب الرائع

يعطيكم الف عافية على جمال متصفحكم

ولنا شوق في معرفة القادم من اطروحاتكم

دمتم بسعادة

دموع السحايب
جزاكِ الله خير
وجعله في موازين حسناتكِ
وانارالله دربكِ بالايمان
ماننحرم من جديدكِ المميز
دمـتِ بحفظ الله ورعايته
همسة امل

بارك الله فيك على هذا الطرح الرائع

لك اجمل التحيات

والشكر والامتنان

عافاك الله وابقاك .وبانتظار جديدك

جزاك الله خيراُ
إحتراماتي لروحك

جزاك الله كل خير

وبارك الله فيك على الطرح الطيب

والله ينور قلبك بالعلم النافع

وجعله الله في ميزان حسناتك يوم الحساب وشفيع لك


مع التحية والتقدير ..

تسلم إيديك على الطـرح
يعطيك آلعآفيـه يَ رب
وبِ إنتظآر المزيد من هذآ الفيض
لقلبك السعآده والفـرح

دموع السحايب
جزاك الله خير وبارك الله فيك ع طرحك القيم
وتسلم يمناك ع النقل الرائع والعطاء الراقي
وجعله في موازين حسناتك
لك من الابداع رونقه ومن الاختيار جماله
دام لنا عطائك المميز والجميل
ولجهودك باقات من الشكر والتقدير