حماية الكائنات الحية في الإسلام
لم تجد الكائنات الحية أمانًا وحمايةً مثل التي توفَّرت لها في ظلِّ الإسلام، وقدجاءت التعاليم الإسلامية بقفزةٍ كبرى في أمر الكائنات الحية، ولا أدلَّ على هذا من كثرة النصوص التي عنيت بأمر الكائنات الحية؛ (الطيور، والحيوانات، والحشرات، وسائر أنواع الدواب).
تظهر هذه القفزة بشكلٍ أوضح حين نقارنها بما كان قبلها في تاريخ الحضارات السابقة على مستوى التعامل مع الحيوان.
تشمل هذه الحماية حماية الحيوان من الظلم والإتعاب والترويع والإيلام كما تشمل عدم خصاء ووسم الحيوان، وحمايته من القتل والعبث والانقراض
أوَّلًا: الحماية من الظلم والإتعام
لقد كانت إحدى معجزات النبيِّ صل الله عليه وسلم في أمر رفع ظلمٍ عن البهائم، وهذا معنًى دقيق؛ إذ إنَّ مثل هذا الموضوع استحقَّ أن تكون له معجزةٌ نبويةٌ خاصَّة.
يروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال:... فدخل صل الله عليه وسلم حائطًا لرجلٍ من الأنصار، فإذا جمل، فلمَّا رأى النبي صل الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبيُّ صل الله عليه وسلم فمسح ذِفْرَاه[1] فسكت، فقال: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلِ؟" فجاء فتًى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله. فقال: "أَفَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟! فَإِنَّهُ شَكَى إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ"[2].
قال الخطابيُّ في معنى تدئبه: يُريد تُكدُّه وتُتعبه، ولقد استخدم النبيُّ صل الله عليه وسلم تعبير: "مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا"، لتتأكَّد الرؤية الإسلامية باعتبار هذه الكائنات من الأمانة التي حملها الإنسان، وامتلكها بحقِّها، وبهذا استخلفه الله سبحانه وتعالى فيها.
نهى الشرع كذلك عن إتعاب الدابة؛ باستخدامها في غير ما خلقه الله سبحانه وتعالى لها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صل الله عليه وسلم قال: "إِيَّايَ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ[4]! فَإِنَّ اللهَ عز وجل إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَاتِكُمْ"[5].
ذكر أنس الجهني رضي الله عنه أنَّ رسول الله صل الله صل الله عليه وسلم قال: "ارْكَبُوا هَذِهِ الدَّوَابَّ سَالِمَةً، وَابْتَدِعُوهَا سَالِمَةً، وَلا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ"[6].
لم يَجُز الحديثُ في حال الركوب على الدابة إلا في حالة الضرورة، كما كان من النبيِّ صل الله عليه وسلم في خطبة الوداع؛ إذ خطبها صل الله عليه وسلم وهو ممتط ظهر ناقته. قال الطحاويُّ: "نهيه عن الجلوس على ظهور الدواب للحديث عليها الذي لا حاجة بالجالس عليها في ذلك منه... وفي ذلك إتعابها لغير ضرورة دعته إلى ذلك منها، وكان جلوسه صل الله عليه وسلم للخطبة على الناس عليها، ولإسماعه إياهم أمره ونهيه مما لا يتهيأ له مثله... لا يُسمع منه ما يكون من أمره ونهيه كما يُسمع ذلك منه وهو على ظهر راحلته، وكانت خطبته على ظهرها بما ذكرنا مما قد دعته إليه ضرورة، وكان ما في الحديثين الأولين من نهيه عما نهى عنه فيهما إنما هو نهيٌ عن جلوسٍ على ظهورها مما لم تَدْعُ إليه ضرورة"[7].
ليس معنى هذا أنَّه يجوز إتعاب الدابة فيما خلقت له كما في السفر مثلًا، فقد قال النووي وهو يُجمل آداب السفر: "لا يجوز أن يُحَمِّل الدابة فوق طاقتها، ولو استأجرها فحَمَّلها المؤجِّر ما لا تطيق لم يجز للمستأجر موافقته؛ لحديث شداد بن أوسٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"[8]، و"لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ"[9]... يُستحبُّ أن يُريح دابته بالنزول عنها غدوةً وعشية وعند عَقَبَة ونحوها، ويتجنب النوم على ظهرها لما ذكرناه... يجوز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة، ولا يجوز إذا لم تكن مطيقة؛ فأمَّا دليل المنع إذا لم تطق فالأحاديث السابقة قريبًا مع الإجماع، وأمّا جوازه إذا كانت مطيقة ففيه أحاديثٌ كثيرةٌ في الصحيح مشهورة"].
تبلغ حماية الإسلام للدواب من السمو والحضارة إلى الحدِّ الذي يُوصي فيه النبيُّ صل الله عليه وسلم حالب الشاة أن يقصَّ أظافره؛ لئلَّا يُؤذيها وهو يحلبها، فعن سوادة بن الربيع رضي الله عنه قال: أتيت النبيَّ صل الله عليه وسلم فسألته فأمر لي بذَوْد[11]، ثُمَّ قال لي: "إِذَا رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِكَ فَمُرْهُمْ فَلْيُحْسِنُوا غِذَاءَ رِبَاعِهِمْ، وَمُرْهُمْ فَلْيُقَلِّمُوا أَظْفَارَهُمْ، وَلا يَعْبِطُوا بِهَا ضُرُوعَ مَوَاشِيهِمْ إِذَا حَلَبُوا"[12].
معنى يَعْبِطُوا ضُروعَ الغنم؛ أي: لا يُشَدِّدوا الحلَب فيَعْقرُوها ويُدْمُوها بالعصر؛ من العَبِيط: وهو الدم الطريُّ، أَو لا يَسْتَقْصُوا حلبها حتى يخرجُ الدمُ بعد اللبن[13].
ثانياً:- الحماية والترويع
حمى الشرع الكائنات الحية من الترويع، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنَّا مع رسول الله صل الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرَة[14] معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحُمَّرة فجعلت تُعَرِّش[15] فجاء النبيُّ صل الله عليه وسلم فقال: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا". ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: "مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟" قلنا: نحن. قال: "إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ"[16].
الشاهد في هذا الحديث إنكار النبيِّ صل الله عليه وسلم إخافة الطائر وترويعه، ثُمَّ أمْره بردِّ الأفراخ التي أُخذت، لا سيما وأنَّ الأفراخ صغيرةٌ لا تصلح للأكل ولا الانتفاع بها.
استعمل النبيُّ صل الله عليه وسلم لفظ: "فَجَعَ"، وفي روايةٍ عند أحمد[17]: "فجَّع". بالتشديد، وهي من التفجيع أي من أصاب المصيبة[18].
ثالثًا: الحماية من القتل العبث:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيِّ صل الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلاَّ سَأَلَهُ اللهُ عز وجل عَنْهَا". قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: "يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا، وَلا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا"[19].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إِنَّ النَّبِيَّ صل الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ[20]"[21].
أمَّا النملة فلأنَّه لا ضرر منها، وأمَّا النحلة فتزيد على النملة بمنافعها، وأمَّا الهدهد والصُّرَد فلأنَّهما طيورٌ صغيرةٌ لا يُنتفع بلحمها؛ فقتلهما من العبث، قال الخطابيُّ مُبَيِّنًا: "يُقال إنَّ النهي إنَّما جاء في قتل النمل في نوعٍ منه خاص؛ وهو الكبار منها ذوات الأرجل الطوال؛ وذلك أنَّها قليلة الأذى والضرر"[22]. وهذا النوع من النمل هو المسمَّى بالنمل السليمانيِّ، بخلاف الصغير المعرَّف بالذر.
قال الطحاويُّ في شرح مشكل الآثار[23]: "فكان قاتل الهدهد داخلًا في هذا المعنى (معنى القتل العبث)-والله أعلم- وكذلك قاتل الصُّرَد؛ لأنَّه لا يقدر أن يجمع من أشكاله ما يتهيَّأ له التبسُّط في أكل لحومها، فقتل ما هذه سبيله -أيضًا- يرجع إلى العبث لا إلى ما سواه، ويلحق قاتله الوعيد... وأمَّا النحلة فليست من هذا الجنس في شيء، ولكنَّها مما يُنتفع بها، وممَّا لا منفعةٌ لقاتلها في قتلها، فقتله إياها يجمع أمرين؛ أحدهما: قطعٌ لمنافعها، والآخر: عدم الانتفاع بها، فزاد جرم قاتلها على جرم قاتل الهدهد والصُّرَد، وأمَّا قتل النملة فإنَّه لا منفعة معه، ولا قطع أذًى به، وهي موصوفةٌ بمعنى محمود"[24].
ومن أقوال أهل المذاهب
الفقهاء متفقون على كراهة قتل الحشرات غير الضارة، واستثنى الفقهاء النمل في حالة الأذية، فإنَّه حينئذٍ يجوز قتله.
ونجد عند الأحناف -في هذه المسألة- دقَّةً عجيبة؛ فالمختار في مذهبهم ألا تقتل النمل إلا إذا (ابتدأت) بالإيذاء، وقتلها مكروهٌ إذا لم تبتدئ به[25].
يُعَبِّر فقهاء المالكية عن حسٍّ عالٍ في هذا الموضع؛ فإنَّهم وضعوا شرطين لجواز قتل النمل؛ هما: أن تؤذي، وألا يُقدر على تجنُّب هذا الإيذاء إلا بالقتل؛ بمعنى أنَّه لو أمكن طرد النمل أو الابتعاد عنها لم يجز عندهم قتله، فكرهوه، ومنعوه عند عدم الأذى[26].
بل قال المالكية -أيضًا- بعدم جواز قتل الحشرات الضارَّة -أيضًا- إذا لم تُؤْذِ، أو على سبيل العبث
وقَسَّم الشافعية الحشرات إلى ثلاثة أقسام:
الأوَّل: ما هو مؤذٍ بطبعه؛ فيندب قتله، الثاني: ما ينفع ويضر؛ فلا يُسنُّ قتله ولا يُكره، الثالث: ما لا يظهر فيه نفعٌ ولا ضرر؛ فيُكره قتله، ويُحرِّمون قتل النمل السليمانيِّ، والنحل، والضفدع؛ أمَّا النمل الصغير فيجوز قتله بغير الإحراق، إلَّا أن يكون الإحراق هو الوسيلة الوحيدة الممكنة[28].
قال الحنابلة
باستحباب قتل كلِّ ما كان طبعه الأذى من الحشرات، ونَصُّوا على كراهة قتل النمل إلا من أذيةٍ شديدة[29].
إنَّه لا يسع الإنسان إلَّا أن يتوقَّف متعجِّبًا من فقهٍ تناقش واختلف حول قتل النملة والنحلة والحشرات؛ حتى لا يُجيز بعضهم القتل إلَّا أن يكون الوسيلة الوحيدة لعلاج الأذى منها، أو يشترط آخرون أن (تبدأ) الحشرة بالإيذاء؛ ذلك مبلغٌ عجيبٌ من الإنسانية والرقَّة والرحمة!