حتى نكون مثالاً يحتذى
تعد الطفولة المبكرة، والتي تمتد من سن ستة أشهر إلى أربع سنوات من أهم المراحل لتنمية المهارات والقدرات العقلية، والقدرة على التعلم بالمستقبل، بل إنها تضع حجر الأساس لمسيرة تعليمية ناجحة، وأكثر الدول اهتماماً بالطفولة المبكرة هي الدول المتقدمة
يقول أحد مسؤولي التعليم حينما كنت في الولايات المتحدة الأميركية سجلت ابني الصغير في الرعاية النهارية، والتي تسبق رياض الأطفال، ومديرة هذه الدار سيدة كبيرة في السن، ولأن القسط الشهري تجاوز الألف ومئتي دولار فقد توقعت أنهم سيعلمون طفلي القراءة والكتابة مبكراً، لكنني تفاجأت في آخر الشهر أنه لا يعرف من الحروف شيئاً فاتجهت إلى مديرة الدار أسألها عن السبب،
فتفاجأت بإجابتها حيث قالت: إن كنت تريد تعليمه الحروف فعليك أن تبحث له عن مكان غير هذا، نحن هنا نعلم الأطفال في هذه السن ما هو أهم، نعلمهم أهم أسلحة النجاح في الحياة الخاصة والعامة، نعلمهم السلوك الصحيح ونزرع فيهم العادات الحميدة والقيم من صدق وأمانة واحترام واهتمام بنظافة أنفسهم والبيئة التي يعيشون فيها، ونعلمهم التعاون الذي هو أساس نجاح الفرد في أسرته ومجتمعه وفي تعاونه مع زملائه، وتعويده على التواصل مع الآخرين بثقة. حينها اقتنعت،
وهكذا كانت نتائج ابني في مختلف مراحل دراسته، حيث استقرت هذه التربية التي تلقاها في السن المناسبة في تلافيف مخه الصغير، وصنعت دوائرها العصبية المناسبة، وهي التي تحدد تصرفاته في الكبر.
وتعد الطفولة المبكرة، والتي تمتد من سن ستة أشهر إلى أربع سنوات من أهم المراحل لتنمية المهارات والقدرات العقلية، والقدرة على التعلم بالمستقبل، بل إنها تضع حجر الأساس لمسيرة تعليمية ناجحة، وأكثر الدول اهتماماً بالطفولة المبكرة هي الدول المتقدمة، ذلك أن الدراسات التي أجريت تثبت أنها الأهم، وأن عائد الاستثمار على التعليم المبكر تتراوح نسبته بين (200 إلى 400) في المئة، مما يثبت جدوى الاستثمار فيه.
ويعد اللعب الجماعي من أهم وسائل تنمية القدرات الاجتماعية والعاطفية والبدنية، وتوسيع مدارك الصغار، لأنه يشمل الاستكشاف والتجربة وتنمية المهارات، ذلك أن تفاعل الطفل مع أطفال آخرين في سنّه وتحت إشراف مختصين يسهم في تعزيز الثقة بالنفس، والتغلب على الشعور بالخجل.
كما أن تعلم الفنون بأنواعها يزيد من استيعاب الطفل وقدرته على التفكير والتحليل والإبداع، ففي تلافيف المخ مليارات الخلايا العصبية التي لا يستخدم سوى القليل منها، وذلك بسبب غياب تنمية المواهب بالتدريب المتواصل، ومهما بلغ الإنسان من تعليم وشهادات عليا فإن سلوكه وحكمه على الأشياء وإيمانه بما يقرأ أو يقال له يعتمد بشكل كبير على ما تشبع به في حياته المبكرة، وكل ما نراه من اختلاف بين الشعوب في سلوكها وأدائها لأعمالها وقيمها هو نتيجة ما يعطى للطفل في المراحل المبكرة، وما يتشبع به من ثقافة.
ومهما تقدمت الشعوب والأمم في حضارتها المادية فإن ذلك لا يغني عن تقدمها الأخلاقي فكل الدول المتقدمة لديها المنشآت والمصانع والمطارات والطرق الفسيحة، لكن الفرق الذي يبهر كل قادم إلى تلك الدول هو مدى التزام شعبها بالنظام والنظافة والاحترام، وهو ما يحتم على وزارة التعليم التركيز على هذه المرحلة من التعليم المبكر، ومنها:
أولاً: العمل على تعميم التعليم المبكر وجعله متاحاً للجميع وليس للأسر الميسورة فقط، فسكان القرى والبادية والمناطق النائية بحاجة إلى تأهيل أبنائهم وبناتهم ليواكبوا تطلعات قادة هذا البلد، وليكونوا شركاء في البناء وخير عون لتحقيق رؤية المملكة 2030، كما أنه من المهم تأهيل المعلمات لترسيخ القيم والعادات وتفتيح عقول الصغار وإبقاء الدهشة وحب البحث لديهم، وجعلها المرتكز للتعليم المبكر.
ثانياً: التعليم المبكر لا يقتصر على الحضانة وما قبلها، بل المنزل هو الأهم، وخاصة مع وجود أكثر من طفل في المنزل وضرورة توفير الألعاب المناسبة للعب الجماعي والفك والتركيب ومبادئ البرمجة، وهو ما يتطلب البحث من قبل وزارة التعليم لمثل هذه الألعاب والسعي لتوفيرها وجعلها في متناول الأسر من حيث التكلفة وسهولة الشراء، مع الاستفادة مما لدى الدول المتقدمة من ألعاب ذات محتوى جيد وهادف.
المملكة محط أنظار العالم العربي والإسلامي، ويزورها سنوياً أكثر من ثلاثين مليون زائر للحج والعمرة، إضافة إلى الوافدين للعمل في المملكة الذين يقدر عددهم بأكثر من 12 مليون شخص، وهو ما يعني ضرورة ارتقاء المواطن بسلوكه وقيمه ليصبح المثال الذي يعكس قيم وأصالة هذا البلد.
للكاتب عبدالله السعدون