شهر رمضان، شهر التدريب الروحي والجسمي، لتخريج النماذج الربانية الصلبة في إرادتها، الشفافة في صفاء رُوحها، القوية التي تتغلب على نزواتها ونزعاتها، الأبية التي لا تستكين لأعدائها، ولا تعطي الدنية في دينها. إنه شهر الصبر، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم، والصيام نصف الصبر». ولهذا كان شهر رمضان على مر التاريخ شهر الإسلام بأمجاده وانتصاراته. والتاريخ الاسلامي حافل بطاقات هائلة، ومواكب انتصارات ساحقة، كان مسارها وميقاتها شهر رمضان المبارك. ففي السابع عشر من هذا الشهر من السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى، وهي أول لقاء مسلح بين الحق والباطل، والايمان والكفر. ولقد تجلى في هذه الغزوة قوة ايمان الصحابة، وشدة شكيمتهم ومقدار عناية الله بهم، رغم قلة عددهم، وضآلة عُددهم، وكثرة عدوهم، وفي الحادي والعشرين من رمضان في السنة الثامنة للهجرة وصل المسلمون الى مكة بقيادة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فتم فتحها، واستسلم أهلها، وكان فتح مكة درسا قاسيا للطغاة، حطم ما تبقى في نفوسهم من عنجهية وطغيان، وصلف وغرور وكبرياء، وإذا كان فتح مكة قد أقام صرح الحق على أساس من القوة والعدل، فإنه ايضا اقام صرح السلام على اساس من الخير والرحمة.
لقد وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخاطب قريشا: «ما تظنون أني فاعل بكم؟». قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، فإن تعف فذاك الظن بك، وإن تنتقم فقد أسأنا! قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا أقول لكم إلا كما قال أخي يوسف من قبل: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين». أبرز المعارك
وفي رمضان من السنة التاسعة من الهجرة وقعت غزوة تبوك بين المسلمين والروم، وعلى الرغم من أن هذه الغزوة لم يحدث فيها قتال بين الجيشين فإنها سجلت للمسلمين نصرا عظيما، فقد انسحبت الجيوش الرومانية وحلفاؤها من البيزنطيين، والقبائل العربية المقيمة على حدود الشام من مواقعهم بعد ان عرفوا قوة الجيش الاسلامي، والروح العالية التي يتميز بها جنوده المتشوقون الى خوض المعركة، مع هذا العدو المتفوق المتجبر، وعاد الجيش الاسلامي الى قواعده، بعد أن قضى على خرافة الجبروت الروماني. وفي شهر رمضان من العام الخامس عشر من الهجرة وقعت معركة القادسية، وانهزمت فيها جيوش الفرس، وارتفعت بعدها رايات الاسلام عالية خفاقة على ارض فارس. وفي شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة عبر المسلمون البحر بجيش جرار يقوده الشاب المسلم الأسمر البطل المغوار طارق بن زياد، ليخلص الأندلس من الاستبداد والظلم، وتم النصر على مئتي ألف قوطي. وفي شهر رمضان سنة خمسمئة وثلاث وثمانين من الهجرة حدثت موقعة حطين كعلامة بارزة على طريق النصر الاسلامي، فقد حقق صلاح الدين الأيوبي نصره الخالد بإجلاء الصليبيين عن الارض الاسلامية، خاصة فلسطين بعد احتلال استمر ثمانية وثمانين عاما. وفي الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ستمئة وثمان وخمسين من الهجرة وقعت «عين جالوت»، لتسجل نصرا للمسلمين على موجة التتار العارمة التي جرفت العالمين العربي والاسلامي فترة من الزمن في بربرية ووحشية تفوق التصور!