حكاية السلطان المنتحر
بين واقع ماثل ومتداخل الخطوط والمسارات، تشتبك فيها تعقيدات السياسة والساسة الأتراك وتتداخل بشكل ملغز وعصى على الفهم أحيانًا، وتاريخ بعيد سطّره الأجداد بشىء من التسلط والدم والحكم الأوتوقراطى السلطانى، يمكننا أن نقف على كثير من التفاصيل الكاشفة لسيكولوجية القادة الأتراك، وبالتبعية لسكيولوجية الدولة التركية – إن جاز التعبير – وهو ما يمكن أن يكشف كثيرًا من أسرار وخفايا السياسة التركية ومواقفها، التى يبدو أنها طوال تاريخها ورغم تبدّل الوجوه والأنظمة، تتحلّق حول رؤية مركزية تؤمن بنقاء وتفوق العرق التركى، بالآلية التى كان يتحرك وفقها الفوهلر أدولف هتلر مع العرق الألمانى الآرى، ولكن بين هذه الرؤية الذاتية الشوفينية وتفاصيلها هناك رؤى أخرى متعالية فى الداخل التركى، هى التى أثمرت عن تحرك مصطفى كمال أتاتورك لـ “تتريك” المجتمع العثمانى والقضاء على الدولة ذات الطموح الإمبراطورى الكوزموبوليتانى، وصياغة دولة ذات طموح إمبراطورى عرقى، وهى التى أثمرت أيضًا عددًا كبيرًا من الانقلابات العسكرية والشجارات السياسية، وأثمرة تلاعبًا بالدستور والقانون كان وما زال حجر زاوية فى معمار السياسة التركية، وصولاً إلى تعديل النص الدستورى ليمنح صلاحيات لمنصب رئيس الجمهورية، بعد أن كان منصبًا شرفيًّا، تمهيدًا لصعود الإمبراطور الجديد رجب طيب أردوغان بعد استنفاد مرات أحقيته بشغل منصب رئيس الحكومة، وعلى هذه الشاكلة من التناقض والصراعات الذاتية المؤسسة على تمايزات شخصية ويقينيات قد تبدو ساذجة أحيانًا، كانت الإطاحة بالسلطان العثمانى عبد العزيز الأول قبل 139 عامًا من الآن.
السلطان عبد العزيز الأول.. سيرة شخصية مختصرة
عبد العزيز الأول هو السلطان العثمانى الثانى والثلاثين، وصاحب الترتيب الرابع والعشرين من آل عثمان بن أرطغل ممن جمعوا بين الخلافة والسلطنة، وهو ابن السلطان محمود الثانى وشقيق السلطان عبد المجيد الأول، وُلِد عبد العزيز الأول فى التاسع من فبراير عام 1830 وتولى مقاليد الحكم عقب وفاة شقيقه فى الخامس والعشرين من يونيو عام 1861، وظل فى الحكم حتى تآمر عليه وزراؤه ومجموعة من كبار رجال الدولة العثمانية وخلعوه عن العرض فى مثل هذا اليوم من العام 1876.
فى الثانى من يونيو من العام نفسه توفى السلطان عبد العزيز الأول، وقيل إنه انتحر عقب ما حدث له على يد رجاله وما كان من إزاحته عن العرش، ولكن الثابت أن الدولة العثمانية واجهت فى عامه الأخير مشكلات عديدة ومتداخلة وصعبة، وصلت إلى إعلان إفلاسها فى العام 1875، ولكنه فى الوقت ذاته هو السلطان العثمانى الوحيد الذى قام بزيارات خارجية ذات طابع سياسى، ومنها زياراته إلى مصر وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، كما لم يشهد عصره والأعوام التى تربع فيها على عرش السلطنة أية حروب خارجية، كما لم تفقد السلطنة العثمانية أى جزء من أراضيها أو ولاياتها، وبينما شهدت بعد المناطق والأطراف ثورات وقلاقل ولكنه استطاع التعامل معها بالسياسة والحزم بما قاد إلى تخطى عقباتها والعبور فوق أشواكها، إلى جانب تخطى كثير من بوادر وتوترات الأزمة المصرية العثمانية.
السلطان وولى العهد.. ثورة داخل القصر
أما فى إطار الحديث عن تفاصيل البيت الحاكم، وكما هوا لحال الآن، فلم يكن أفراد الأسرة العثمانية على وفاق داخلى، ولم تكن علاقة السلطان عبد العزيز الأول جيدة مع ولى عهده الأمير مراد، وبينما لم يتورط عبد العزيز فى قتل مراد أو أى من أولاد أخيه كما اشتهر عن السلطنة العثمانية وسلاطينها فى حقب وعهود مختلفة، ولكنه اعتقل عددًا منهم فى قصر “دولمة بهجة” حتى يأمن على عرشه وسلطاته، وبسبب مرافقة ولى العهد الأمير مراد له فى رحلاته الخارجية وإشادة نابليون بونابرت وعدد من السياسيين بالأمير الصغير على خلفية ثقافته وعلمه وإجادته للفرنسية والموسيقى، زاد توتر العلاقة وزاد تضييق السلطان عليه.
حتى هذه اللحظة كانت التقاليد والعادات فى السلطنة العثمانية أن ينتقل العرش إلى أكبر ذكور العائلة العثمانية، وهى التقاليد التى كانت مستقرة منذ العام 1299، ولكن السلطان عبد العزيز كان يحاول إرساء قاعدة جديدة لوضع ولاية العهد فى أبنائه، ليكون السلطان التالى هو ابنه يوسف عز الدين، تمامًا كما يسعى “أردوغان” لأن تكون مقاليد الحكم/ الولاية، فى حزب العدالة والتنمية بشكل دائم، ولكن الأمر على عهد عبد العزيز ولّد معارضة كبيرة فى أوساط العائلة العثمانية وكبار رجال الدولة وعلماء الدين.
الإخوة الأعداء.. ضغائن آل عثمان وخلع عبد العزيز
كان إفلاس الدولة الذى أشرنا إليه فى السطور السابقة سببًا كبيرًا فى زيادة توتر الأجواء واشتعالها حول السلطان عبد العزيز الأول، وبينما يعود السبب إلى قلة واردات الدولة العثمانية وزيادة مصروفاتها، وخاصة المصروفات الحربية فى عهد السلطان عبد المجيد الأول – شقيق عبد العزيز وسلفه – وزيادة الاقتراض من دول أوروبا مع حروب السلطنة العثمانية مع الوالى المصرى محمد على باشا وخاصة حرب “قونية” الشهيرة، والحرب مع مملكة اليونان وحرب القرم، ومع عهد عبد العزيز الأول استمر الاقتراض مع استمرار تراجع الإيرادات وارتفاع عجز الموازنة، ما قاد إلى إفلاس الدولة.
أما عن تفاصيل خلع عبد العزيز الأول، فقد توجه سليمان باشا رئيس المدرسة الحربية فى الآستانة، مساء يوم 29 مايو 1876 إلى ثكنات الجيش، وأصدر أمرًا باحتلال الطريق والحدائق المحيطة بقصر “دولمة بهجة”، بينما قطع الأسطول الطريق بين القصر والبحر، وبعد اشتباكات قصيرة مع رجال الحراسة الخاصين بالسلطان استسلموا لقوات ووحدات الجيش، فأصبح السلطان محاصرًا بشكل كامل.
فى الثالثة من فجر اليوم التالى دخل سليمان باشا ومعه مجموعة من القادة العسكريين إلى قصر “جراغان” ليخبروا الأمير مراد المتواجد فى القصر بأنه أصبح السلطان الجديد للدولة، ونقلوه إلى مقر وزارة الحربية حيث كان الوزراء فى انتظاره، وهناك تمت قراءة فتوى خلع السلطان من المرجعية الدينية العليا فى الدولة، لتطلق المدفعية 101 طلقة وهى المعروفة بـ “مدافع الجلوس”.