ما أعظم عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعداء، فقد مثل عفو الإسلام خير تمثيل، وأفهم الجميع أن الإسلام جاء يريد الخير للجميع، لأوليائه وأعدائه جميعاً، وليس ديناً يحقد على أحد، وليست بعض ممارساته الصارمة نابعة عن القسوة، وإنما هي نابعة من روح تعميم العدالة على الجميع. فقد اشتد أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد، إذ قتل عمه حمزة رضى الله عنه ومثل بجسده الشريف، وقتل العشرات من المسلمين، فتقدم بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واقترحوا عليه أن يدعوا على المشركين ليعذبهم الله بعذاب من عنده، كما كان يعذب المشركين الأولين بدعوة أنبيائهم عليهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن ذلك وقال: إني لم ابعث لعاناً ولكن بعثت داعياً ورحمة.
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والبردة على كتفيه صلى الله عليه وسلم فجذب الأعرابي أطراف الرداء جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البردة في صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول بخشونة بالغة: يا محمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا من مال ابيك، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم برهة ثم قال: المال مال الله وأنا عبده ثم قال: ويقتص منك يا أعرابي ما فعلت بي، قال لا فقال صلى الله عليه وسلم: ولم؟ قال: لأنك تعفو وتصفح ولا تكافئ بالسيئة الحسنة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر
ومن عظيم عفوه صلى الله عليه وسلم معاملته مع أهل مكة، أهل الشرك والكفر، الذين قتلوا أصحابه، وأنصاره، وأقرباؤه في عشرات الحروب والذين أخرجوه صلى الله عليه وسلم من مسقط رأسه الشريف، وبلد الله وبلد آبائه، والذين عذبوا المهاجرين بأنواع التعذيب وقتلوا العديد منهم، والذين تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم عدة مرات، والذين مارسوا معه صلى الله عليه وسلم وأنصاره كل أنواع المظالم، هؤلاء جميعهم، جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فاتحاً منتصراً عليهم، حياتهم كلها رهن كلمة ينطق بها، ومع هذا نظر إليهم نظرة كلها عفو ورحمة وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء .